السبت، 22 صَفر 1447هـ| 2025/08/16م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

خديعة أسلمة الاقتصاد الرأسمالي المفلس لإعادة تدويره بأموال المسلمين!

 

تعرف الساحة الفكرية الإسلامية اليوم في ظل الحرب الحضارية الطاحنة ضد الإسلام وأمته سيولة فكرية جارفة حارقة، استدعى فيها الغرب كل إفكه وزيفه وتجديفه وتحريفه وتلبيسه وتضليله، وأخرج من أقداحه كل أنصابه وأزلامه، واستنفر من جحوره كل ضب نتن، يبغي به فتنة المسلمين وتزييف وعيهم وهدم إيمانهم وتحطيم إسلامهم، عبر تلبيس حق الإسلام العظيم بباطل وضلالات علمانيته الكافرة الفاجرة، بتزييف مفرداته وتزوير مصطلحاته وتحريف أصوله وقواعده وضوابطه، وإعادة فرز ومسخ أفكاره ومفاهيمه وأحكامه، والمشاغبة في تحريف دلالاته ومعانيه واللحن في لغته لتتماشى وتتماهى مع كفر علمانيته ورأسماليته.

 

وأمام قهر الإسلام الفكري وإفلاس الغرب الثقافي وهزيمته الفكرية وفشله الحضاري، أعاد الغرب فرز أوراقه وابتدع أسلوبا جديدا في الغزو الثقافي للساحة الإسلامية لعله وعساه يحتوي هذا المد الفكري الإسلامي الكاسح.

 

فكانت خديعة أسلمة مفاهيم المنظومة العلمانية الغربية في محاولة بائسة يائسة لإعادة تسويق المنتج العلماني الكاسد. والأسلمة عند التحقيق هي عملية تشويه فكري وتزييف ثقافي وتلفيق فقهي ومسخ حضاري ترمي إلى إعادة إذاعة وإشاعة المسخ الحداثي العلماني بمفردات ومصطلحات من الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية والفقه الإسلامي تحديدا، بعد أن يتم تجويف المفردات والمصطلحات الإسلامية وإفراغها من دلالاتها ومعانيها الشرعية وضخ مضامين ومفاهيم علمانية، ويقدَّم هذا الكفر المتأسلم كفهم واجتهاد منفتح وابتكار عصري ضمن دائرة الإسلام ومن داخل حدود معارفه، ويصدَّر لنا ونُقذف به كإنتاج من داخل فكرنا وثقافتنا وكمادة لدراستنا وتثقيفنا، وهكذا يتم إلباس رقاعة ضلالة العلمانية لبوس الشرع، ودعمها بأسناد من فقه الهزيمة وسحق الواقع وفتوى المشايخ المأجورين، ثم تدوين غواية وكفر فلسفتها وثقافتها بمفردات ومصطلحات وتراكيب إسلامية لتصديرها كجزء من الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية لأبناء الإسلام.

 

ومن أهم ميادين هذا المسخ والتزييف "الأسلمة" اليوم هو حقل الاقتصاد الرأسمالي ومعاملاته المالية الرأسمالية، وكانت الغاية من إفك الأسلمة ابتداء هي شرعنة النظام الرأسمالي المتوحش ومعاملاته المالية المحرمة، ثم محاولة امتصاص صدمات الأزمات الرأسمالية الطاحنة المتعاقبة، عبر ضخ أموال المسلمين الضخمة (أكثر من 3.25 تريليون دولار لسنة 2023 بحسب تقارير صادرة عن مجلس الخدمات المالية الإسلامية، ومن المتوقع أن يصل حجم السوق إلى أكثر من 4 تريليون دولار بحلول 2026 عبر توسع قطاع البنوك (الإسلامية) وزيادة الطلب على الصكوك) في السوق الرأسمالية المفلسة لمحاولة رتق الثقب الأسود المالي الرأسمالي (الديون الفلكية)، وكذلك تطويق هذه السيولة والتحكم فيها لجعلها عنصرا خادما للرأسمالية وليس معاكسا لتيارها، وكهدف استراتيجي وسلاح في الحرب الحضارية لاحتواء حركة الإسلام المبدئي وفعلها المتعاظم في الأمة، عبر تسويق منتج زائف (الاقتصاد الإسلامي الزائف) وتحييد بل وعزل الاقتصاد الإسلامي عن ساحة الصراع الفكري والكفاح السياسي، وصد الأمة عن الإسلام الحق وأنظمته الحقة ومنها نظام الاقتصاد الإسلامي، مع صناعة طبقة من المثقفين المهادنين للرأسمالية والمتعايشين بل المدافعين عن رؤاها كجزء من إسلامهم ومن ثم احتواء التغيير الجذري الثوري، عبر إيجاد نموذج اقتصادي إسلامي شكلي وزائف دون المساس بجوهر البنية الرأسمالية، والهدف إضفاء شرعية إسلامية على المعاملات المالية الرأسمالية مع الإبقاء على الفلسفة والأسس الربوية والقواعد الرأسمالية كما هي، ثم تسويق كل هذا النهب والجور الرأسمالي كمعاملات اقتصادية شرعية وإدماج كل المسلمين في هذا المقت الرأسمالي.

 

تاريخيا بدأ هذا المنحى في أسلمة العلمانية ورأسماليتها أواخر الثمانينات من القرن الماضي للتصدي لإرهاصات النهضة الإسلامية وتجلية مبدئية الإسلام ومشروعه الحضاري، وفيما يتعلق بالشق الاقتصادي عملت معاهد الفكر والجامعات الغربية والمؤسسات الرأسمالية الغربية على تصميم مشروع أسلمة مفاهيم الاقتصاد الرأسمالي ونشرها تحت ما سمي فيما بعد بالاقتصاد الإسلامي (المحدث الزائف).

 

فقد احتضنت جامعة أوكسفورد البريطانية أبحاثا متقدمة حول الفكر الاقتصادي الإسلامي ضمن مركز الدراسات الإسلامية الذي استحدثته، وتم تدريس ما أطلق عليه اقتصاد إسلامي كجزء من دراسات الشرق الأوسط والتمويل الأخلاقي. وكذلك جامعة هارفارد الأمريكية التي أنشأت "برنامج التمويل الإسلامي" وصيرته قسما في كلية الحقوق، واستضافت مؤتمرات كبرى حول اقتصادها الإسلامي المحدث في تسعينات القرن الماضي. وكذلك جامعة دورهام البريطانية وهي من أوائل الجامعات الغربية التي أطلقت ماجستير في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، وأنشأت مركزا بحثيا متخصصا لهذا الغرض. وكذلك المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن فقد ساهم في دمج العلوم (الاجتماعية) الغربية والاقتصاد الرأسمالي تحت غطاء الاقتصاد الإسلامي، في مناهج التعليم كمادة من الثقافة الإسلامية بعد تغليفها بقشرة إسلامية، وأنتج كتبا دراسية وأسس برامج جامعية في ماليزيا والسودان وإندونيسيا وأمريكا تحت خديعة أسلمة المعرفة.

 

ثم هناك المؤسسات المالية الرأسمالية الغربية كبنك سيتي بنك الغول المالي الأمريكي، وبنك إس بي سي البريطاني، فقد قاما بإنشاء أقسام (إسلامية) داخل البنوك وكذلك تداريب أكاديمية للتخصص في المعاملات المالية المستحدثة ضمن الاقتصاد الإسلامي المحدث الزائف، ومَوَّلُوا كذلك برامج جامعية لتسويق المنتج العلماني الرأسمالي الجديد (الاقتصاد الإسلامي). وتكفلت كذلك المعاهد الفكرية والدراسات الاستراتيجية الغربية كمؤسسة بروكنز الأمريكية والمعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني بنشر وترويج الدراسات والبحوث المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي المحدث الزائف. وكان لصندوق النقد والبنك الدوليين الدور العملي في تحويل أفكار الاقتصاد الإسلامي الزائف المحدث إلى سياسات، ودعا لإدراج مخرجات هذا الاقتصاد ضمن البرامج الاقتصادية والتعليمية للدول القائمة في البلاد الإسلامية، وكان الصندوق والبنك قد أجريا دراسات حول دور التمويل الإسلامي في الاستقرار المالي (بمعنى تدوير الاقتصاد الرأسمالي المفلس بأموال المسلمين).

 

وبالفعل تحولت سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي المحدث الزائف لسياسات للأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية، وتكفلت مؤسسات إقليمية بإدراجه كتخصص أكاديمي وكمشاريع اقتصادية دولية، وأنشئت وتشكلت مؤسسات فكرية واقتصادية تم دمغها بالطابع الإسلامي، وقادت منظمة التعاون الإسلامي عملية تسويق المنتج الرأسمالي باسم الاقتصاد الإسلامي وأنشأت مجامع فقهية لإلباس المنتج الرأسمالي لبوس الإسلام، ثم سوقته وروجت له عبر مؤتمرات ودورات تدريبية ومولت من أجل ذلك مشاريع ومؤسسات مالية وأكاديمية.

 

ثم فرخت بعدها البنوك "الإسلامية" ومعها الحاجة إلى الأطر المتخصصة، فأحدثت لذلك أقسام وشعب ومقررات وشهادات في الجامعات والمعاهد الدينية المحلية والجامعات الغربية.

 

فالنموذج في بلاد المغرب حالة معيارية يقاس عليها؛ فقد تم تأسيس شُعَب الدراسات الإسلامية أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي في الجامعات المغربية لتشمل مقرّرات حديثة مثل الاقتصاد الإسلامي المحدث ضمن إطار ما سمي بمواكبة الحداثة والعصرنة. وأصبح تدريسه جزءاً من المناهج الدراسية المعاصرة في مرحلة الدراسات العليا كشعبة من شعب الاقتصاد أو كشعبة من الدراسات الإسلامية (ماجستير، دكتوراه)، وأدرج الاقتصاد الإسلامي في أقسام الجامعات كتخصص مستقل في جامعة محمد الخامس بالرباط وجامعة فاس وجامعة تطوان، وتكثفت الإجراءات بعد الانخراط التام للنظام في سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي المحدث، وأنشأ النظام ما سمي بالبنوك التشاركية كنوع من "البنوك الإسلامية" تحت إشراف بنك المغرب من حيث القوانين والأنظمة البنكية، وتكفل المجلس العلمي الأعلى بدمغها بالطابع الإسلامي عبر فتاوى تحت الطلب ومشايخ وأكاديميين للإيجار والتوظيف لإضفاء الشرعية على الأنظمة المالية الرأسمالية المعاصرة.

 

وهذا الاقتصاد الإسلامي المحدث الزائف لا علاقة بإسلام ولا بفقه، بل جذره الفلسفي هو الاقتصاد الرأسمالي ومدارسه ومذاهبه الفكرية، وتكاد تكون دائرة اشتغالاته هي المعاملات المالية الرأسمالية للبنوك والشركات والبورصات الرأسمالية، فمقررات أقسام الاقتصاد هذا بالجامعات في البلاد الإسلامية شاهدة على ذلك (جامعة القدس، جامعة دمشق، معهد الاقتصاد الإسلامي بالكويت والسعودية، جامعة محمد الخامس بالمغرب) تكاد موادها تكون نسخة واحدة للأصل الغربي ومواضيعها واحدة تتمحور حول: أسس التمويل - الاقتصاد النقدي والمالي - قانون الشركات والبنوك الإسلامية - التشريعات المصرفية والتأمينية - المعاملات المالية - الصكوك - تصميم المنتجات المالية - تمويل الشركات - أسواق المال - تقنيات البنوك والتأمين - إدارة المحافظ والأسواق - التمويل الدولي - إدارة الاستثمار - المحاسبة والضرائب - إدارة المخاطر... فدائرة انشغالاتها هي باختصار البنك ومعاملاته، والبورصة وأسهمها وسنداتها، ثم التأمين.

 

وكل هذه المواضيع في حقيقتها هي مضامين لمنتجات رأسمالية صيغت بغطاء إسلامي واستفادت من الهشاشة الثقافية وضعف الأفهام لأبناء الإسلام وخاصة جهلهم التام بطبيعة النظام الاقتصادي في الإسلام، فتم الالتفاف على مفاهيم الاقتصاد الرأسمالي بغلاف وقشرة إسلامية؛ الالتفاف على البنك بتسميته بنكا إسلاميا أو تشاركيا، والمعاملات الربوية مرابحة ومشاركة ومضاربة، والبورصة سوقا مالية إسلامية وأسهمها وسنداتها أضحت صكوكا، والتأمين صار تأمينا تكافليا!

 

فقد انتهى موضوع الاقتصاد الإسلامي إلى نسخة معدلة للاقتصاد الرأسمالي الغربي مع تحايل على معاملاته الربوية وعقوده وبنوكه وشركاته ومؤسساته الرأسمالية وتحويرها وإخفاؤها بمصطلحات من الفقه الإسلامي (المرابحة، المضاربة، بيع السلم، الصكوك...) لاستهداف الزبون المسلم، وهي عملية تحايل صممتها وأنشأتها دوائر الغرب وانخرطت فيها أنظمة الاستعمار عبر الترويج لها وتسويقها عبر أكاديميين تم إعدادهم لهكذا مهمة وشيوخ للإيجار والتوظيف للفتوى تحت الطلب وتحليل المعاملات الرأسمالية الباطلة المحرمة.

 

والواقع العملي هو الفاضح لحقيقة الغاية الرأسمالية الخبيثة وراء سياسة "الاقتصاد الإسلامي"، فجوهر الغاية الرأسمالية هو شرعنة البنك الرأسمالية محرك الاقتصاد الرأسمالي وماكينة حصاد أرباح رأسمالييه، وتعميم النموذج الرأسمالي في المعاملات البنكية والمعاملات المالية على عموم المسلمين دون تحفظ وتحوط من حرمة شرعية.

 

وها هو الميدان يفضح الحقائق، فقد تجاوزت سوق أموال المسلمين المستهدفة من السوق الرأسمالية 3.25 تريليون دولار (3250 مليار دولار) عام 2023 بحسب تقارير صادرة عن مجلس الخدمات المالية الإسلامية، وزعت بحسب القطاعات على الشكل التالي:

 

- قطاع البنوك (الإسلامية) يمثل 70٪ من إجمالي السوق بحجم يقارب 2.3 تريليون دولار

- الصكوك (السندات الإسلامية) تمثل 17٪ من حجم السوق بأكثر من 560 مليار دولار

- صناديق الاستثمار (الإسلامية) تمثل ما بين 4 و5٪ من حجم السوق بحوالي 150 مليار دولار

- التأمين (التكافلي) حجمه حوالي 25 مليار دولار

 

فنحن أمام معاملات مالية رأسمالية خالصة لن تجد لها أي جذر تشريعي في الفقه الإسلامي ولا علاقة لها بالنظام الاقتصاد الإسلامي ولا بأحكامه الشرعية الطاهرة. بل هي عملية تلاعب وتحايل كبرى على أموال المسلمين الطائلة لضخها في السوق الرأسمالية الغربية تحت غطاء من التلفيق الفقهي والزيف التشريعي، فالمعاملات الربوية تم تصنيفها في باب المرابحة والمضاربة وبيع السلم، والسندات الربوية تم تصنيفها صكوكا (السند هو دين لحكومة أو شركة تصدرها مقابل تحصيل السيولة من المشتري مقابل نسبة ربوية حين استرجاع المبلغ الأصلي من المشتري). والتأمين الرأسمالي صُنِّف تأمينا تكافليا!

 

وها قد شهد شهود من أهل هذا الاقتصاد الإسلامي المحدث الزائف على حقيقته الرأسمالية، فقد كشف مجمع الفقه الإسلامي العالمي أن ما يصل إلى 85٪ من الصكوك لا تلتزم فعليا بالشريعة، ما يعكس تواطؤا ضمنيا لإضفاء "شرعية وهمية". وأكد الأستاذ فيصل خان من جامعة نيويورك هوبارت أن عقود المرابحة التي تشكل 80٪ من المعاملات المالية (الإسلامية) العالمية، لا تتفق مع مبادئ الشريعة فهي عمليا شبيهة جدا بالربا، فالمرابحة المعمول بها عمليا هي حقيقة منفعة على الدين، فهي عائد ربح ثابت بدون مخاطرة أو مشاركة في الربح والخسارة وهو عين الربا، وكل ذلك التنظير عن المرابحة لا علاقة له بالواقع العملي، واعتبر آخر أن مشايخ الشريعة هم مجرد تزيين إعلامي للمنتج الرأسمالي. أما الصكوك فهي السندات الرأسمالية وعائدها هو عين الربا وما تغني حيل المرابحة والمضاربة وبيع السلم والرهن عن حقيقتها الرأسمالية، أما التأمين فهو عين العقد الرأسمالي الباطل المحرم، وتذويب شحمه في قدر التكافل لا يحله ولا ينزع عنه حرمته، أما السوق المالية الإسلامية فهي عين البورصة الرأسمالية وغرر أسهمها ومعاملاتها الرأسمالية الباطلة (كبورصات ماليزيا والسعودية والإمارات والبحرين والمغرب الحديثة النشأة والتي تصنف "أسواقا مالية إسلامية") فكلها تحاكي معاملات البورصات الرأسمالية الغربية.

 

وعليه كان لزاما علينا نحن المسلمين اليقظة التامة والتنبه والحذر لمكائد الغرب وحربه الفكرية الحضارية، فكيف يكون كيد ومكر عدونا بنا وحربه الحضارية تزداد شراسة؟! وبناء عليه نعود لتفكيك بعض الألغام المعرفية للتجرد والتحلل من علائق الفكر العلماني الغربي واقتصاده الإسلامي المحدث الزائف، والتأسيس لرؤية إسلامية نقية صافية متعلقة بنظامنا الاقتصادي الإسلامي الحق المستنبط من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ وما أرشدا إليه من إجماع وقياس.

 

أولا لا بد من تعريف بالبذور والجذور للنظام الاقتصاد الرأسمالي الغربي لفهم حقيقة كفره وبطلانه وفساده، فبذرته الأم هي العقيدة العلمانية في فصل الدين عن الحياة والسياسة وأنظمتها، فهو اقتصاد وضعي منقطع عن وحي السماء محادّ لشرع الله، وجذره الثقافي هو حرية الملكية ومنها تولدت مصطلحات الاقتصاد الليبرالي والاقتصاد الحر واقتصاد السوق والاقتصاد الرأسمالي.

 

أما الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي فهي ثلاثة أسس:

 

الندرة النسبية: وهي عدم كفاية السلع والخدمات المحدودة لإشباع وسد حاجات غير محدودة.

 

القيمة: وهي الأهمية والمنفعة الاقتصادية التي يخلعها الفرد أو المجتمع على مال ما، ويعتبر الشيء نافعاً اقتصاديا ما دام هناك من يرغب فيه سواء أكان ضروريا أو غير ضروري، كما لا يهم ولا ينبغي لهذه الرغبة أن تتفق مع قيم أو أخلاق أو تعترضها قواعد قانونية أو ضوابط صحية فهي متحررة من أي شرط أو قيد.

 

الثمن: وهو المتحكم في ميكانيكا السوق إنتاجا واستهلاكا وتوزيعا.

 

وعليه فأساس النظام الاقتصادي الرأسمالي الغربي هو معالجة تلك الندرة النسبية المفترضة عبر زيادة الإنتاج لتوفير مزيد من السلع والخدمات، فالهم والشغل الشاغل للرأسمالي هو مزيد من الإنتاج (يرافقه مزيد من أرباح الرأسماليين)، فالقضية في النظام الاقتصادي الرأسمالي هي مادة الثروة وأرباح ملاكها، أما مسألة الإنسان وإشباع حاجاته وسد جوعاته فأمر ثانوي متروك لمن يملك الثمن.

 

ثم العطب المعرفي المدمر في الرؤية الرأسمالية، وقبله بطلان وفساد العقيدة العلمانية في ادعائها عزل الخالق عن شؤون خلقه ثم تجريدهم من كل القيم عبر تحريرهم من أية مسؤولية أخلاقية عبر حرية الملكية، هو كذلك في افتراضها مشكلة وهمية غير قائمة أدى إلى تفريخ مشاكل متفرعة عنها، فافتراض الندرة النسبية أدى إلى زيادة مفرطة في الإنتاج بل وحتى إنتاج ما لا حاجة فيه، ما أدى إلى فائض في المنتوج، ما ولد الاحتكار والكنز والمضاربة وإتلاف المحاصيل والبضائع ومحق الجهود للتحكم في العرض ومن ثم الأرباح.

 

فابتكر الغرب آلية البنك للدين الربوي المقنن والمنظم والمعمم، لتوفير الثمن واستهلاك فائض المنتوج، وحلت الوسيلة مكان الفلسفة فأصبح البنك هو الثمن في الدورة الاقتصادية الرأسمالية ومحركا لعجلتها إنتاجا واستهلاكا وتوزيعا، وبات البنك هو حجر الزاوية في النظام الاقتصادي الرأسمالي الغربي.

 

فالبنك منتج رأسمالي خالص، واستنساخه إسلاميا وإضفاء شرعية عليه عبر بعض التمحلات كالتسمية "بنك إسلامي" والتعسف والتكلف في تسمية بعض معاملاته بمصطلحات شرعية كالمرابحة والمضاربة والرهن وبيع السلم... لا ينزع عنه فلسفته وأصله، فجيناته رأسمالية صرفة، وكل محاولة استنساخ هي محض هراء وتلفيق فقهي فاضح وتشوه ثقافي شنيع، وقس عليه البورصة وسنداتها وأسهمها، وكذلك هو التأمين، فما كانت تلك التلفيقات (السوق المالية الإسلامية والصكوك والتأمين التكافلي) لتنزع منها وعنها روحها الرأسمالية الخبيثة.

 

فما زلنا ندور في حلقة مفرغة حبيسي قفص المنظومة الرأسمالية الغربية في الاقتصاد تحديداً، فالاقتصاد الرأسمالي هو من أعظم البلايا التي فتنت بها الأمة وأشد ما تعانيه من بؤس وفقر من جراء نتائج الأفكار الرأسمالية المتعلقة بالاقتصاد، وتأثرا بهكذا فكر وواقع أصبح مصطلح الاقتصاد الإسلامي كما هو مطروح اليوم لا يعدو عن كونه قشرة يختفي تحتها ركام الاقتصاد الرأسمالي الغربي، محاولين عبثاً تهذيبه وتلطيفه وتوليف واستئناس وحشه، ففلسفة الغرب الاقتصادية الرأسمالية هي المتحكمة في هذا الاقتصاد الإسلامي المحدث الزائف، فالاقتصاد الرأسمالي هو الثمرة الخبيثة لمنظومة الغرب العلمانية الكافرة فهو شق من كفره.

 

فعبثا وسدى يحاول البعض من كفر الغرب الثقافي العلماني استخلاص رؤية للنظام الاقتصادي في الإسلام، فهو عين الضحالة الفكرية والهزيمة الثقافية وطرق لباب الردة، فالإسلام منظومة وحي مكتملة الصنعة فريدة البناء لها نسقها المعرفي الخاص والمتفرد والمتميز ولها قواعدها وأدواتها الخاصة بها وهي المُعَوَّل عليها لتجلية كنوز الوحي واستنباط أحكامه وأنظمته الشرعية، أنظمة الإسلام أساسها الوحي على النقيض من المنظومة العلمانية الوضعية وأنظمتها.

 

لذا كان لزاما تجلية أمر الاقتصاد الإسلامي حتى نخرج من هذا التيه الثقافي والدوامة المعرفية التي حولت البعض لقنوات وقناطر لتصريف المنتج العلماني الرأسمالي وهم يظنون أنه فقه إسلامي ويحسبون أنهم يحسنون صنعا!

 

لا بد من إدراك أن النظام الاقتصادي في الإسلام هو مجموع الأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية التي تعالج علاقة الإنسان بالثروة: حيازة وتصرفا بها وتوزيعا لها، ومادة الثروة هما المال وجهد الإنسان، وعلى ذلك فالأساس الذي يبنى عليه النظام الاقتصادي في الإسلام قائم على قواعد هي: الملكية، التصرف في الملكية، وتوزيع الثروة بين الناس.

 

وقولنا أحكاما شرعية مستنبطة من أدلتها التفصيلية أي أن العملية عملية فقهية شرعية خالصة، وصاحب الآلة ونعني به الفقيه المجتهد هو المخول شرعا ومعرفيا بما يملكه من أدوات لاستنباط هكذا أحكام، فالمسألة فقهية تشريعية وليست إنشاء لغوياً أو رأياً فنيا تقنيا أيا كان جذره المعرفي، والمسألة الفقهية في الإسلام شديدة الدقة وسياجها محكم، تستند إلى مصادر الوحي التشريعية؛ الكتاب والسنة وما أرشدا إليه من إجماع وقياس شرعي، وآلة استنباطها الاجتهاد المنضبط بقواعد الشرع، فالنظام الاقتصادي في الإسلام مسألة فقهية خالصة وصاحبها هو الفقيه المجتهد حصرا وقصرا، ومن الضحالة الفكرية تصورها مسألة فنية ومسألة حسابات وبيانات وأرقام فهذا عين الجهل بل الجهالة بشرع الله وبالطبيعة التشريعية للأنظمة من كونها فرعاً عن جذرها التشريعي وفلسفة منظومتها، وأشنع منها ذلك السفه في تصور النظام الاقتصادي في الإسلام بأنه استنساخ للنظام الرأسمالي الغربي الكافر مع تغيير في الأسماء (مسميات إسلامية).

 

ولما كان النظام الاقتصادي في الإسلام فقها شرعيا كان باباً موصدا أمام المتطفلين الذين يفتقرون للآلة الفقهية أداة استنباط الأحكام من مصادرها الشرعية، فيعتبر قادحا في تقوى المرء وورعه أن يخوض فيما لا يعلم وما لا يضبط، فمن لم تكن الأصول وقواعدها والفقه وأقضيته واللغة العربية وبلاغتها وبيانها وإعرابها والقرآن وعظيم علومه والسنة ومتونها ومسانيدها ورجالها والاجتهاد وشروطه، باب تحصيله وعلمه وهضمه ومَلَكَة اجتهاده فكيف به أن يقتحم محراب الإسلام العظيم؟! فالقضية دين ووحي وعلم رب العالمين فكيف يجب أن يكون زاد المرء المعرفي ليخوض في أمانة الوحي والفتيا فيه وثقل مسؤوليتها أمام الله؟

 

فالاقتصاد في الإسلام صنعة فطاحل الفقهاء وليس ترفا فكريا لأصحاب شهادات مدارس وجامعات ومعاهد حظائر الاستعمار العلمانية ومن باب أولى جامعات ومعاهد الغرب العلمانية الرأسمالية، فما هذا السفه في تحصيل ثقافي وشهادات وإجازات في الاقتصاد (الإسلامي) من جامعات حظائر الاستعمار العلمانية التي ما أنشأها الغرب إلا لعلمنة حياتنا وفكرنا، وأنكى منها جامعات لندن وباريس وواشنطن معاقل العلمانية والرأسمالية الاقتصادية الغربية؟! ما كان الشيطان الرجيم ليصنع أكثر من هذا مسخا للعقول ومحقا للإيمان وتحريفا لمفاهيم الإسلام!

 

لأبناء الإسلام ليس مع العلمانية وأنظمتها إسلام وإيمان بل هي الكفر ولا شيء سواه، فالحذر الحذر، دين الله أمانة ومسؤولية عظيمة أمام ديان الخلائق كلها، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فلا يغرن الواحد شهادته الجامعية في هكذا مقت وإفك (الاقتصاد الإسلامي المحدث الزائف) وتزكية العوام وإعجاباتهم، فلن تعدو كونها إعجاب عامي في دين الله بعامي آخر حسب شهادته الجامعية فقها وإجازة فقهية (وهي حقيقة شهادة وإجازة في باب من أبواب العلمانية واقتصادها الرأسمالي)!

 

ختاما هذا مرجع فريد ونفيس عن النظام الاقتصادي في الإسلام، وهو بحق ثروة فكرية إسلامية نادرة وعبقرية فقهية عز نظيرها من تأليف علم من أعلام هذه الأمة، فقيه مجتهد نحرير، الشيخ تقي الدين النبهاني جزاه الله عن الإسلام وأمته جزاءه الأوفى فردوسه الأعلى، لمن أراد أن يغترف من حقيق الفقه الإسلامي والثقافة الإسلامية الصافية النقية ويستقيم على أمر الله. كتاب: النظام الاقتصادي في الإسلام

قَالَ رَسُول الله ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

مناجي محمد

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع